كيف استطاعت الفنون كسر قيود التهميش؟
رحلة مُلهمة من إندونيسيا توضح كيف حوّل الفن مجتمعات مهمشة من العزلة إلى التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وأثبت أن الإبداع أداة حقيقية للتغيير.
في قلب جزيرة جاوة الإندونيسية، تحديدًا في منطقة بوندووسو، تعيش فئات مهمّشة لطالما ظلّت خارج الحسابات التنموية. يُشار إليهم محليًا بالمُتسوّلين، والعازفين المتجولين، والباحثين في النفايات. أفراد بلا تعليم، بلا دخل ثابت، وبلا أفق واضح. واقع مألوف في مجتمعات كثيرة تعيش على هامش التنمية، ليس في إندونيسيا فحسب، بل في أنحاء واسعة من العالم، وخاصة بين الفئات الأشد احتياجاً.
لكن ما حدث هناك لم يكن مشروعًا خيريًا عابرًا. ما شهدته بوندووسو كان تجسيدًا حيًا لمفهوم التعلّم التحويلي (Transformative Learning)، وهو نموذج تعليمي يركّز على تغيير نظرة الإنسان لذاته ولمجتمعه، وإعادة بناء القناعات التي تبقيه عالقًا في التهميش.
الفن كأداة للتمكين
بداية التغيير كانت عبر استوديو للفنون تأسس وسط هذه المجتمعات. لم يكن الهدف تقديم دروس فنية تقليدية، بل خلق مساحة آمنة لاكتشاف الذات والتعبير عن القصص والأحلام المكبوتة. لم يكن الفن ترفًا، بل تحوّل إلى أداة للابتكار الاجتماعي ساهمت في بناء هوية جديدة للفرد والمجتمع.
المدربون لم يلقوا محاضرات، بل شاركوا الناس واقعهم بلغتهم وثقافتهم. الأطفال انجذبوا في البداية بدافع الفضول أو الطعام، لكنهم وجدوا في الفن ما هو أعمق: كرامة، وإحساس بالجدارة، وشعور بالقدرة على تحقيق مستقبل مختلف.
من التعبير إلى التمكين الاقتصادي
إلى جانب التدريب الفني، تم إدماج مهارات عملية مثل النجارة، الحدادة، وصناعة الإكسسوارات. الهدف كان واضحًا: لا يكفي تحرير الوعي، بل يجب توفير أدوات للتمكين الاقتصادي تفتح أبواب الدخل والعمل المستقل.
النتائج جاءت سريعة. بعض الأطفال عادوا إلى الدراسة، وآخرون انخرطوا في سوق العمل. تغيرت حياة عائلات كاملة بعدما شعر الآباء بتأثير الفن على أبنائهم.
الفن وريادة الأعمال الاجتماعية
هذا النموذج تجاوز كونه مشروعًا فنيًا، ليصبح مثالًا ناجحًا على ريادة الأعمال الاجتماعية. حيث جرى توظيف الفن كمدخل للتغيير الاجتماعي، وتحفيز المجتمعات على بناء حلول محلية تنبع من واقعها.
المشروع لم يعتمد على تدخل خارجي ثقيل، بل على استثمار مؤثر ركز على بناء القدرات، وتفعيل الطاقات المعطّلة في أكثر المناطق تهميشًا. وهذا ما يجعل النموذج قابلًا للتكرار في مجتمعات أخرى، بما فيها الدول العربية.
ما الذي يعلّمنا إياه هذا النموذج؟
- التمكين يبدأ بالفكرة، لا بالتمويل: المجتمعات الهشّة لا تحتاج شفقة، بل منظور جديد يمكنها من رؤية ذاتها بطريقة مختلفة.
- الفن أداة ابتكار اجتماعي: يتجاوز الحواجز الثقافية والاقتصادية، ويعيد وصل الإنسان بذاته وبمجتمعه.
- ريادة التغيير تبدأ من الداخل: حين يرى الإنسان نفسه قادرًا على صنع مستقبله، تبدأ ملامح التحول الحقيقي.
في عالم تتزايد فيه التحديات، لم يعد دعم الفئات الأشد احتياجاً خيارًا إنسانيًا فقط، بل ضرورة استراتيجية لتحقيق تنمية مستدامة تستند إلى التمكين الاقتصادي والاستثمار المؤثر.
أروقة البداية والنهاية
نسير بثبات نحو المستقبل عبر أروقة العمل الجاد والطموح الذي لا يعرف حدودًا..
نزرع الأثر ليبقى، ونستكشف الآفاق الواعدة لنكتشف فرصًا تعود بالنفع على الإنسانية جمعًا.
هنا، حيث يبدأ الأمل، ولا تنتهي المسيرة!
